المعلم واستشعار المسؤولية
مسؤولية التعليم عظيمة، والأمانة الملقاة على عواتق أهله كبيرة؛ فما طريق المعلمين بلا حبةٍ، ولا مهمتهم بيسيرة؛ فلقد تحمَّلوا الأمانة وهي ثقيلة، واستحقوا الإرث وهو ذو تبعات، وينتظر منهم ما ينتظره المدلج في الظلام من تباشير الصبح؛ فإن الأمة ترجو أن يبنى بهم جيل قوي الأسر، شديد العزائم، سديد الآراء، متين العلم، متماسك الأجزاء.
ولا يقال هذا الكلام؛ تهويلًا، وإنما يقال؛ ترويضًا؛ فمن وطَّن نفسه على المكروه هانت عليه الشدائد، ووجد كل شيءٍ باسمًا جميلًا محبوبًا.
ومن تخيل الراحة، وحكم أخيلتها في نفسه، ثم كذَّبته الآمال -كان بين عذابين، أمضَّهما كذب المخيلَة[1].
قال ابن حزم: وطن نفسك على ما تكره يَقِلَّ هَمُّك إذا أتاك، ويعظمَ سرورُك ويتضاعف إذا آتاك ما تحب مما لم تكن قدَّرْتَه[2].
فيا معاشر المعلمين، إنكم عاملون فمسؤولون عن أعمالكم، فمجزيون عنها من الله، ومن الأمة، ومن التاريخ، ومن الجيل الذي تقومون عليه كيلًا بكيلٍ، ووزنًا بوزن؛ فإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم ولكم من الله فضل جزيل، ومن التاريخ والأمة ثناء جميل.
وإن قصرتم فقد أسأتم لأنفسكم ولأمتكم، وإن لما يبوء به المقصرون من الندامة والمرارة ما يحلو معه بخع النفوس، وإتلاف المهج.
وتلك هي الحالة التي نعيذ أنفسنا – معاشر المعلمين – بالله من تسبيب أسبابها، وتقريب وسائلها.
كيف وقد نهى ديننا الحنيف عن التقصير في الواجبات، ونعى التفريط في الحقوق، وبين آثاره وعواقبه، وحض على الأعمال في مواقيتها، وقبح الكسل، والتواكل، والإضاعة، فشرع لنا بذلك كل شرائع الحزم والقوة وضبط الوقت والنفس مالم يشرعه قانون، ولم تأت به عقلية.
وما أخَذَنا بذلك إلا ليأخذ بِحُجَزِنا عن التَّهَوّي في الكسل والبطالة، ويقينا تَجَرُّعَ مرارة الندم، وحرارة الحسرة[3].
قال الله -تعالى-: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 58].
وقال – عزَّ وجلَّ -: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72].
وقال النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّتِه»[4].
فيا معاشر المعلمين، إنكم رعاة ومسؤولون عن رعيتكم، وإنكم بناة وإن الباني لمسؤول عما يقع في البناء من زيغ أو انحراف.
وإذا كان في الأنابيب حيف *** وقع الطيش في صدور الصِّعَاد
فالتعليم هو التكوين الأول للناشئة، وعلى أساسها يبنى مستقبلهم في الحياة؛ فإن كان هذا التكوين صالحًا كانوا صالحين لأمتهم ولأنفسهم، وإن كان مختلًا ناقصًا زائغًا بنيت حياة الجيل كله على فساد، وساءت آثاره في الأمة وكانت الأمية أصلح لها، وأسلم عاقبة.
قال الحكيم العربي:
إِذَا ما الجرحُ رمَّ على فسَادٍ *** تَبَيَّن فيه تَفرِيطُ الطَّبيبِ
وقال شوقي:
وإِذَا المعَلِّمُ سَاءَ لحظَ بصيرةٍ *** جاءتْ على يدِه البصائرُ حُولا[5]
إن تبعة ذلك تلقى على المعلمين الكرام؛ فلينظروا أي موقف أوقفتهم الأقدار فيه، وليشدُّوا الحيازيم لأداء الأمانة على وجهها، وليعلموا أنهم إنما يبنون للأمة من كل جيل ساقًا حتى يعلو البناء ويشمخ، وإن البناء لا يعلو قويًّا، صحيحًا، متماسك الأجزاء، متعاصيًا على الهزات والزلازل – إلا إذا كان الأساس قويًّا متينًا، متمكنًا ركينًا[6].
إذا كان الأمر كذلك فإنه لا يحسن بنا – معاشر المعلمين – أن نتنصل عن المسؤوليةِ، أو أن نلقي بالتبعات على غيرنا، فنلقي بها على البيت، وفساد الزمان، وقلَّة المعين وما إلى ذلك.
بل نقوم بما هو فرض علينا، ونؤدِّي الأمانة المنوطة بنا على أكمل وجه وأتمه.
قال العلامة محمد البشير الإبراهيمي في وصيَّته للمعلمين: إنكم تجلسون من كراسي التعليم على عروش ممالك، رعاياها أطفالُ الأمة؛ فسُوسُوهُمْ بالرفق والإحسان، وتَدَرَّجوا بهم من مرحلة كاملة في التربية إلى مرحلةٍ أكملَ منها.
إنهم أمانة الله عندكم، وودائع الأمة بين أيديكم، سلمتهم إليكم أطفالًا؛ لتردوها إليها رجالًا، وقدمتهم إليكم هياكل؛ لتنفخوا فيها الروح، وألفاظًا؛ لتعمروها بالمعاني، وأوعية؛ لتملؤها بالفضيلة والمعرفة[7].
ومما يحسن التنبيه عليه في هذا الصدد أن مسؤولية التربية والتعليم لا تقتصر على معلمي الشريعة أو اللغة أو ما يدور في فلكهما.
بل هي عامة، ومناطة بكل معلم ومرب؛ فالعلم النافع الذي دلَّ عليه الكتاب والسنة هو كل علم أثمر الثمار النافعة، وأوصل إلى المطالب العالية، فكل ما زكى الأعمال، ورقى الأرواح وهدى إلى السبيل – فهو من العلم النافع، لا فرق في ذلك بين ما تعلق بالدنيا أو بالآخرة؛ فشرف الدين لازم لشرف الدنيا، وسعادة المعاش مقترنة بسعادة المعاد.
والشريعة بكمالها وشمولها أمرت بتعلمِ جميع العلوم النافعة من العلم بالتوحيد وأصول الدين، ومن علوم الفقه والأحكام، ومن العلوم العربية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والحربية، والطبية، إلى غير ذلك من العلوم التي يكون بها قوام الأمة، وصلاح الأفراد والمجتمعات[8].
المصدر:
مع المعلمين، الناشر: موقع وزارة الأوقاف السعودية
[1] انظر: “عيون البصائر” للشيخ محمد البشير الإبراهيمي (ص 215 – 219).
[2] “الأخلاق والسير في مداواة النفوس” (ص26).
[3] انظر: “عيون البصائر” (ص 288 – 289).
[4] رواه البخاري (1893) ، ومسلم (1829).
[5] “الشوقيات” (1/ 183).
[6] انظر: “آثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي” (3/ 157 ، 161)، و”عيون البصائر” (288 – 289).
[7] “آثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي” (3 / 161).
[8] انظر: “الدين الصحيح يحل جميع المشاكل” للشيخ ابن سعدي (ص20)، و”الدلائل القرآنية في أن العلوم النافعة داخلة في الدين الإسلامي” للشيخ ابن سعدي (ص6)، وانظر: “ومضات فكر” للشيخ محمد الطاهر ابن عاشور (ص134).