حقوق الجار على وجه التفصيل كثيرة جدًا وأما أصولها فتكاد ترجع إلى أربعة حقوق:
1_كف الأذى: فقد تقدَّم أن للجار مكانةً عالية، وحرمةً مصونة. ومن أجل ذلك جاء الزجر الأكيد والتحذير الشديد في حق من يؤذي جاره؛ فالأذى بغير حق محرم، وأذية الجار أشد تحريمًا. جاء في صحيح البخاري عن أبي شريح،عن النبي ” قال: والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن. قيل: من يا رسول الله ؟ قال: من لا يأمن جارُه بوائقه”. وجاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة،عن النبي” قال: لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه”. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة_رضي الله عنه _:” من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره”. وعن أبي هريرة،قال: قيل للنبيِّ “: يا رسول الله ! إن فلانة تقوم الليل، وتصوم النهار، وتفعل، وتصدق، وتؤذي جيرانها بلسانها ؟ قال رسول الله “: لا خير فيها، هي من أهل النار”.
قالوا: وفلانة تصلي المكتوبة، وتصدَّق بأثوار ، ولا تؤذي أحداً ؟ فقال رسول الله “: هي من أهل الجنة”. ولفظ الإمام أحمد: “ولا تؤذي بلسانها جيرانها”. بل لقد جاء الخبر بلعن من يؤذي جاره، ففي حديث أبي جحيفة،قال: جاء رجل إلى النبي يشكو جاره، فقال له: “اطرح متاعك في الطريق”. قال: فجعل الناس يمرون به فيلعنونه، فجاء إلى النبي فقال: يا رسول الله، ما لقيتُ من الناس ؟. قال:” وما لقيتَ منهم ؟”. قال: يلعنوني. قال: “فقد لعنك الله قبل الناس”.
قال: يا رسولَ الله، فإني لا أعود. قال علي بن أبي طالب للعباس ما بقي من كرم إخوانك ؟ قال: الإفضال إلى الإخوان، وترك أذى الجيران. فانظر كيف عدَّ العباس،ترك أذى الجيران من الكرم. ولقد كان العرب يتمدحون بكف الأذى عن الجار، قال هدبة بن الخشرم: يبيت عن الجيران مُعْزبُ جهله مُريحُ حواشي الحلم للخير واصف وقال: ولا نخذل المولى ولا نرفع العصا عليه ولا نُزجي إلى الجار عقربا بل إن لبيدًا عدَّ هوان الجارِ لجارِه فاقرةً من الفواقر، قال: وإن هوانَ الجارِ للجارِ مؤلمٌ وفاقرةٌ تأوي إليها الفواقر
2_حماية الجار: فمن الوصية بالجار ومن حقه حمايته، ومما ينبه لشرف همة الرجل نهوضه لإنقاذ جاره في بلاء يُنال به، سواء كان ذلك في عرضه، أو بدنه، أو ماله أو نحو ذلك. ولقد كانت حماية الجار من أشهر مفاخر العرب التي ملأت أشعارهم. قال عنترة: وإني لأحمي الجار من كل ذلة وأفرح بالضيف المقيم وأبهج وقالت الخنساء تمدح أخاها بحمايته جارَه: وجارك محفوظٌ منيعٌ بنجوةٍ من الضيم لا يُؤذى ولا يتذلل وقالت: يحامي عن الحيِّ يوم الحفا ظ والجار والضيف والنُّزَّل وكان لأبي حنيفة جار بالكوفة إذا انصرف من عمله يرفع صوته في غرفته منشدًا قول العرجي: أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسِداد ثغرِ فيسمع أبو حنيفة إنشاده هذا البيت، فاتفق أن أخذ الحرس في ليلة هذا الجار وحبسوه، ففقد أبو حنيفة صوته تلك الليلة،
وسأل عنه من الغد، فأخبروه بحبسه، فركب إلى الأمير عيسى بن موسى، وطلب منه إطلاق الجار، فأطلقه في الحال. فلما خرج الفتى دعاه أبو حنيفة، وقال له سرَّاً: فهل أضعناك يا فتى ؟ قال: لا، ولكن أحسنت وتكرمت، أحسن الله جزاءك . بل لقد غالى العرب وبالغوا في المحاماة عن الجار؛ إذ لم تتوقف محاماتهم عن الجار الإنسان، بل لقد تعدوا ذلك، فأجاروا ما ليس بإنسان إذا نزل حول بيوتهم حتى ولو كان لا يعقل ولا يستجير؛ مبالغة في الكرامة والعزة، وتحديًا لأحد أن يخفر الجوار، مثل ما فعل مدلج ابن سويد الطائي الذي نزل الجراد حول خبائه، فمنع أحدًا أن يصيده حتى طار وبَعُدَ عنه . وكان كليب يجير الصيد فلا يعرض له أحدٌ .
3_الإحسان إلى الجار: فلا يكفي الرجل ف حسن الجوار أن يكف أذاه عن جاره، أو أن يدفع عنه بيده أو جاهه يدًا طاغيةً، أو لساناً مقذعاً. بل يدخل في حسن الجوار أن يحسن إليه في كافة وجوه الإحسان، فذلك دليل الفضل، وبرهان الإيمان، وعنوان الصدق. جاء في الصحيحين
من حديث أبي هريرة،قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه. ولمسلم_أيضًا_: فليحسن إلى جاره. قال حاتم الطائي: إذا كان لي شيئان يا أم مالك فإن لجاري منهما ما تخيرا فمن الإحسان إلى الجار تعزيته عند المصيبة، وتهنئته عند الفرح , وعيادته عند المرض، وبداءته بالسلام، و طلاقة الوجه عند لقائه، وإرشاده إلى ما ينفعه في أمر دينه ودنياه، ومواصلته بالمستطاع من ضروب الإحسان مما سيأتي التنبيه عليها فيما بعد.
4_احتمال أذى الجار: فللرجل فضل في أن يكف عن جاره الأذى، وله فضل في أن يذود عنه، ويجيره عن أيدٍ أو ألسنة تمتد إليه بسوء، وله فضل في أن يواصله بالإحسان جهده. وهناك فضل رابع، وهو أن يغضي عن هفواته، ويتلقى بالصفح كثيرًا من زلاته وإساءاته، ولا سيما إساءة صدرت عن غير قصد، أو إساءة ندم عليها وجاء معتذرًا منها.
فاحتمال أذى الجار وترك مقابلته بالمثل من أرفع الأخلاق وأعلى الشيم. ولقد فقه السلف هذا المعنى وعملوا به. روى المرُّوذي عن الحسن: ليس حسن الجوار كف الأذى، حسن الجوار الصبر على الأذى. قال منصور الفقيه يمدح بعض إخوانه من جيرانه: يا سائلي عن حسين وقد مضى أشكاله أقلُّ ما في حسين كفُّ الأذى واحتماله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من كتاب ” التقصير في حقوق الجار” للشيخ/ محمد بن إبراهيم الحمد