الحمد لله الذي أكمل لنا الدين ، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام دينا، والصلاة والسلام على النعمة المسداة، والرحمة المهداة نبينا محمد بن عبدالله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه .
أما بعد:
فإن العيد مظهر من مظاهر الدين ، وشعيرة من شعائره المعظمة التي تنطوي على حكم عظيمه ، ومعان جليلة، وأسرار بديعة لا تعرفها الأمم في شتى أعيادها .
* فالعيد في معناه الديني شكر لله على تمام العبادة، لا يقولها المؤمن بلسانه فحسب ، ولكنها تعتلج في سرائره رضا واطمئنانا ، وتنبلج قي علانيته فرحا وابتهاجا، وتسفر بين نفوس المؤمنين بالبشر والأنس والطلاقة، وتمسح ما بين الفقراء والأغنياء من جفوة
* والعيد في معناه الإنساني يوم تلتقي فيه قوة الغني ، وضعف الفقير على محبه ورحمة وعدالة من وحي السماء ، عنوانها الزكاة والإحسان ، والتوسعة .
* يتجلى العيد على الغني المترف ، فينسى تعلقه بالمال ، وينزل من عليائه متواضعا للحق وللخلق ، ويذكر أن كل من حوله إخوانه وأعوانه ، فيمحو إساءة عام بإحسان يوم .
* يتجلى العيد على الفقير المترب . فيطرح هموهه ، ويسمو من أفق كانت تصوره له أحلامه ، وينسى مكاره العام ومتاعبه ، وتمحو بشاشة العيد آثار الحقد والتبرم من نفسه ، وتنهزم لديه دواعي اليأس على حين تنتصر بواعث الرجاء.
* والعيد في معناه النفسي حد فاصل بين تقييد تخضع له النفس ، وتسكن إليه الجوارح، وبين أنطلاق تنفتح له اللهوات ، وتتنبه له الشهوات.
* والعيد في معناه الزمني قطعة من الزمن خصصت لنسيان الهموم ، واطراح الكلف ، واستجمام القوى الجاهدة في الحياة .
* والعيد في معناه الإجتماعي يوم الأطفال يفيض عليهم بالفرح والمرح ، ويوم الققراء يلقاهم باليسر والسعة ، ويوم الأرحام يجمعها على البر والصلة ، ويوم المسلمين يجمعهم على التسامح والتزاور ، ويوم الأصدقاء يجدد فيهم أواصر الحب ودواعي القرب ، ويوم النفوس الكريمة تتناسى أضغانها ، فتجتمع بعد إفتراق ، وتتصافى بعد كدر ، وتتصافح بعد انقباض .
وفي هذا كله تجديد للرابطة الاجتماعية على أقوى ما تكون من الحب ، والوفاء ، والإخاء.
وفيه أروع ما يضفي على القلوب من الأنس ، وعلى النفوس من البهجة ، وعلى ا لاجسام من الراحة .
وفيه من المغزى الاجتماعي – أيضا -تذكير لأبناء المجتمع بحق الضعفاء والعاجزين ؛ حتى تشمل الفرحة بالعيد كل بيت ، وتعم النعمة كل أسرة .
* وإلى هذا المعنى الاجتماعي يرمز تشريع صدقة الفطر في عيد الفطر، ونحر الأضاحي في عيد الأضحى ؛ فإن في تقديم ذلك قبل العيد أو في أيامه إطلاقا للأيدي الخيرة في مجال الخير؛ فلا تشرق شمس العيد إلا والبسمة تعلو كل شفاه ، والبهجة تغمر كل قلب.
* في العيد يستروح الأشقياء ريح السعادة، ويتنفس المختنقون في جو من السعة، وفيه يذوق المعدمون طيبات الرزق، ويتنعم الواجدون بأطايبه .
* في العيد تسلس النفوس الجامحة قيادها إلى الخير، وتهش النفوس الكزة إلى الإحسان .
* في العيد أحكام تقمع الهوى ، من ورائها حكم تغذي العقل ، ومن تحتها أسرار تصفي النفس ، ومن بين يديها ذكريات تثمر التأسي في الحق والخير ، وفي طيها عبر تجلي الحقائق ، وموازين تقيم العدل بين الأصناف المتفاوتة بين البشر ، ومقاصد سديدة في حفظ الوحدة ، وإصلاح الشأن ، ودروس تطبيقية عالية في التضحية، والإيثار، و المحبة .
* في العيد تظهر فضيلة الإخلاص مستعلنة للجميع ، ويهدي الناس بعضهم إلى بعض هدايا القلوب المخلصة المحبة، وكأنما العيد روح الأسرة الواحدة في الأمة كلها .
* في العيد تتسع روح الجوار وتمتد، حتى يرجع البلد العظيم وكأنه لأهله دار واحدة يتحقق فيها الإخاء بمعناه العملي .
* في العيد تنطلق السجايا على فطرتها ، وتبرز العواطف والميول على حقيقتها .
* العيد في الإسلام سكينة ووقار، وتعظيم للواحد القهار ، وبعد عن أسباب الهلكة ودخول النار .
*والعيد مع ذلك كله ميدان استباق إلى الخيرات ، ومجال منافسة في المكرمات .
* ومما يدل على عظم شأن العيد أن الإسلام قرن كل واحد من عيديه العظيمين بشعيرة من شعائره العامة التي لها جلالها الخطير في الروحانيات ، ولها خطرها الجليل في الاجتماعيات ، ولها ريحها المهابة بالخير وا لإحسان والبر والرحمة ، ولها أثرها العميق في التربية الفردية والجماعية التي لا تكون الأمة صالحة للوجود، نافعة في الوجود إلا بها .
هاتان الشعيرتان هما شهر رمضان الذي جاء عيد الفطر مسك ختامه ، وكلمة الشكر على تمامه ، والحج الذي كان عيد الأضحى بعض أيامه ، والظرف الموعي لمعظم أحكامه.
* فهذا الربط الإلهي بين العيدين ، وبين هاتين الشعيرتين كاف في الحكم عليهما ، وكاشف عن وجه الحقيقة فيهما ، وأنهما عيدان دينيان بكل ما شرع فيهما من سنن ، بل حتى ما ندب إليه الدين فيهما من أمور ظاهرها أنها دنيوية كالتجمل ، والتحلي ، والتطيب ، والتوسعة على العيال ، وإلطاف الضيوف ، والمرح واختيار المناعم والأطايب ، واللهو مما لا يخرج إلى حد السرف ، والتغالي ، والتفاخر المذموم ؛ فهذه الأمور المباحة داخلة في الطاعات إذا حسنت النية؛ فمن محاسن الإسلام أن المباحات إذا حسنت فيها النية ، وإريد بها تحقق حكمة الله ، أو شكر نعمته -انقلبت قربات كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : “حتى اللقمة تضعها في في امرأتك “.
* كلا طرفي العيد في معناه الإسلامي جمال ، وجلال ، وتمام وكمال ، وربط واتصال ، وبشاشة تخالط القلوب ، واطمئنان يلازم الجنوب ، وبسط وانشراح ، وهجر للهموم واطراح ، وكأنه شباب وخطته النضرة ، أو غصن عاوده الربيع ؟ فوخزته الخضرة .
* وليس السر في العيد يومه الذي يبتدئ بطلوع الشمس وينتهي بغروبها ، وإنما السر فيما يعمر ذلك اليوم من أعمال ، وما يغمره من إحسان وأفضال ، وما يغشى النفوس المستعدة للخير فيه من سمو وكمال ؛ فالعيد إنما هو المعنى الذي يكون في العيد لا اليوم نفسه.
* هذه بعض معاني العيد كما نفهمها من الإسلام ، وكما يحققها المسلمون الصادقون ؟ فأين نحن اليوم من هذه الأعياد؟ وأين هذه الأعياد منا؟ وما نصيبنا من هذه المعاني ؟ وأين آثار العبادة من آثار العادة في أعيادنا
* إن مما يؤسف عليه أن بعض المسلمين جردوا هذه الأعياد من حليتها الدينية، وعطلوها عن معانيها الروحية الفوارة التي كانت تفيض على النفوس بالبهجة ، مع تجهم الأحداث ، وبالبشر مع شدة الأحوال ؟ فأصبح بعض المسلمين – وإن شئت فقل : كثير منهم – يلقون أعيادهم بهمم فاترة، وحس بليد، وشعور بارد، وأسرة عابسة ، حتى لكأن العيد عملية تجارية تتبع الخصب والجد ، وتتأثر بالعسر واليسر ، والنفاق والكساد ، لا صبغة روحيه تؤثر ولا تتأثر .
* ولئن كان من حق العيد أن نبهج به ونفرح وكان من حقنا أن نتبادل به التهاني ، ونطرح الهموم ، ونتهادى البشائر – فإن حقوق إخواننا المشردين المعذبين شرقا وغربا تتقاضى أن نحزن لمحنتهم ونغتم ، ونعنى بقضاياهم ونهتم ؟ فالمجتمع السعيد الواعي هو ذلك الذي تسمو أخلاقه في العيد إلى أرفع ذروة ، ويمتد شعوره الإنساني إلى أبعد مدى ، وذلك حين يبدو في العيد متماسكا متعاونا متراحما ، حتى ليخفق فيه كل قلب بالحب ، والبر ، والرحمة ، ويذكر فيه أبناؤه مصائب إخوانهم في ا لأقطار حين تنزل بهم الكوارث والنكبات .
ولا يراد من ذلك تذارف الدموع ، ولبس ثياب الحداد في العيد ، ولا يراد منه – أيضا – أن يعتكف الإنسان كما يعتكف المرزوء بفقد حبيب أو قريب ، ولا أن يمتنع عن الطعام كما يفعل الصائم .
وإنما يراد من ذلك أن تظهر أعيادنا بمظهر الأمة الواعية ، التي تلزم ا لاعتدال في سرائها وضرائها ؟ فلا يحول احتفاؤها بالعيد دون الشعور بمصائبها التي يرزح تحتها فريق من أبنائها .
ويراد من ذلك أن نقتصد في مرحنا وإنفاقنا؛ لنوفر من ذلك ما تحتاج إليه أمتنا في صراعها المرير الدامي .
ويراد من ذلك- أيضا – أن نشعر بالإخاء قويا في أيام العيد ؟ فيبدو علينا في أحاديثنا عن نكبات إخواننا وجهادهم ما يقوي العزائم ، ويشحذ الهمم ، ويبسط ا لأيدي بالبذل ، ويطلق ا لألسنة بالدعاء ؟ فهذا هو الحزن المجدي الذي يترجم إلى عمل واقعي .
* أيها المسلم المستبشر بالعيد : لا شك أن تستعد أو قد استعددت للعيد أبا كنت ، أو أما ، أو شابا ، أو فتاة، ولا ريب أنك قد أخذت أهبتك لكل ما يستلزمه العيد من لباس ، وطعام ونحوه ؟ فأضف إلى ذلك استعدادا تنال به شكورا ، وتزداد به صحيفتك نورا ، استعدادا هو أكرم عند الله ، وأجدر في نظر الأخوة والمروءة .
ألا وهو استعدادك للتفريج عن كربة من حولك من البؤساء، والمعدمين ، من جيران ، أو أقربين أو نحوهم ؟ فتش عن هؤلاء ، وسل عن حاجاتهم ، وبادر في إدخال السرور إلى قلوبهم . وإن لم يسعدك المال فلا أقل من أن يسعدك المقال بالكلمة الطيبة ، والابتسامة الحانية ، والخفقة الطاهرة .
* وتذكر في صبيحة العيد ، وأنت تقبل على والديك ، وتأنس بزوجك ، وإخوانك وأولادك ، وأحبابك ، وأقربائك ، فيجتمع الشمل على الطعام اللذيذ ، والشراب الطيب ، تذكر يتامى لا يجدون في تلك الصبيحة حنان الأب ، وأيامى قد فقدن ابتسامة الزوج ، وأباء وأمهات حرموا أولادهم ، وجموعا كاثرة من إخوانك شردهم الطغيان ، ومزقهم كل ممزق ؟ فإذا هم بالعيد يشرقون بالدمع ، ويكتوون بالنار ، ويفقدون طعم ا لراحة وا لاستقرا ر .
* وتذكر في العيد وأنت تأوي إلى ظلك الظليل ، ومنزلك الواسع ، وفراشك الوثير تذكر إخوانا لك يفترشون الغبراء، ويلتحفون الخضراء ، ويتضورون في العراء .
* واستحضر أنك حين تأسو جراحهم . وتسعى لسد حاجتهم أنك إنما تسد حاجتك ، وتأسو جراحك [1] والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ، [2] وما تنفقوا من خير فلأنفسكم ، و[3] من عمل صالحا فلنفسه و” من نقس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفسن الله عنه كربة من كرب يوم القيامة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ” ، و” من لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم ” و”مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
بارك الله للمسلمين عيدهم ، ومكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم . وصلى الله وسلم على نبينا محمد واله وصحبه وسلم .